-A +A
توفيق السيف
طبقا لرأي استاذنا الدكتور محمد الهرفي فان ظهور التنظيم الرسمي للافتاء يرتبط بقيام الدولة الحديثة التي عرفها العالم الاسلامي خلال القرن العشرين. مورد اهتمام الهرفي ليس تاريخ الافتاء على أي حال، فقد كان يناقش في المقام الاول موضوع عمل المفتي والعوامل المؤثرة في الفتوى وانعكاساتها على العلاقة بين المفتي والجمهور. وهو يخلص من مناقشته الى الدعوة لاستقلال مؤسسة الافتاء، شأنها في ذلك شأن القضاء مثلا. وقد ندد الهرفي في سياق مناقشته بتصدي غير الاكفاء للفتوى وفتوى بعضهم في موضوعات بعيدة عن مجال اختصاصه، الامر الذي اثمر عن فوضى مشهودة في المجال الديني يعرفها كل متابع. وقد سبق لكثير من المفكرين والعلماء ان تناولوا الموضوع وقدموا طروحات جديرة بالاهتمام، لكنها لم تحظ بما تستحقه من مناقشة علمية واجتماعية. معظم الناس في ما يبدو يفضل ايكال الفتوى الى هيئة تضم مجموعة فقهاء، كما هو الحال في مجمع الفقه الاسلامي وهيئة كبار العلماء. بينما يميل غيرهم الى ربط الفتوى بموضوعها، بالتركيز على جانب التخصص. بعبارة اخرى، فهم يدعون الى صياغة جديدة للعلوم الشرعية تنتهي الى تخريج فقهاء متخصصين في موضوعات محددة، واختصاص كل منهم بالفتوى في موضوع تخصصه دون غيره من الموضوعات. بحيث نرجع الى فقيه متخصص في أمور العبادات ونرجع الى آخر حين نحتاج الى راي شرعي في مسألة تتعلق بالسوق، والى ثالث في امور العائلة والاحوال الشخصية.. الخ. دور الدين في الحياة العامة في بلادنا يشبه الى حد ما دور القانون في المجتمعات الاخرى. في تلك البلاد ثمة قضاة متخصصون في الاحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والارث والنفقة والنسب.. الخ. وثمة قضاة متخصصون في قضايا الاملاك، وآخرون في النزاعات التجارية، وتخصص غيرهم في الخلاف حول تفسير القوانين او قضايا الحقوق المدنية.. الخ. وعلى نفس السياق فقد تحولت مهنة المحاماة الى مهنة تخصصية، فكل محام يترافع في موضوع اختصاصه ولا يجاوزه الى غيره. اظن ان فكرة التخصص سوف تساعد على تنظيم حقل الفتوى كما ستساعد على استقلاله. ذلك ان الناس بطبعهم اميل الى قبول راي المتخصص حين يتوفر. يساعد التخصص في تعزيز الثقة بقيمة الفتوى ويشجع على الاخذ بها. ان عدم اطمئنان الناس لعدد من الفتاوى راجع الى شكهم في الاساس العلمي الذي تقوم عليه، او مناسبتها لواقع الحال. وكلا الامرين يرجع الى تبحر صاحب الفتوى في موضوعها وعلمه به علما تخصصيا تفصيليا. حين يتحدث فقيه في المعاملات البنكية مثلا، فنحن نتوقع منه معرفة دقيقة بموضوع عمل البنك وموقعه في النظام الاقتصادي ومعيشة الناس. مثل هذا الموضوع لا يدرس في المدارس الشرعية لانه ليس موضوع اختصاص لها. وكذلك الامر في بقية الموضوعات. لا يصعب التوصل الى صيغة مناسبة للجمع بين دراسة العلوم الشرعية والتخصصية. كأن يشترط للتخرج من الكليات الشرعية دراسة اختصاص ثان، في الاقتصاد او القانون او البيولوجيا او علم الاجتماع.. الخ. وهذا من الأمور المتعارف عليها في المجال الاكاديمي، وهو مطبق في بعض دول العالم، مثل الولايات المتحدة التي تشترط على دارس القانون ان يحصل مسبقا على شهادة جامعية في حقل ثان. او تشترط على طالب الطب ان يحصل على شهادة في الاحياء او الكيمياء الحيوية.. الخ. في ما مضى من الزمن كان يمكن للفقيه ان يكون طبيبا ورياضيا وفلكيا وفيلسوفا، وربما عالم ميكانيكا ايضا. وقد عرفنا في تاريخ العلوم بعض من جمع اطراف هذه العلوم وزاد. لكن هذا اصبح مستحيلا في عالم اليوم. ليس لان عقول الناس اصبحت اقل استيعابا، بل لان العلوم تشعبت وتوسعت، كما تشعبت الحياة وتعقدت، واكتشف الانسان دقائق في العلم والطبيعة ما كانت لتخطر في خيال الماضين فضلا عن ان يعرفوها. ان التقدم العلمي والحضاري في العالم الغربي هو ثمرة الاعتراف بالتخصص واعتباره اساسيا في التعامل مع وقائع الحياة وتحدياتها وما تأتي به من جديد ومختلف في كل صباح. لكن هذه ليست الفائدة الوحيدة للاتجاه الى التخصص في الفتوى، فالاستقلال سيكون هو الاخر ثمرة للتخصص. فبقدر ما يكون الاساس العلمي والموضوعي للفتوى متينا ومتقنا، بقدر ما تكون مؤثرة. الاستقلال - من هذه الزاوية - لا يتحقق بقرار يتخذه المفتي او غيره، بل هو ناتج طبيعي عن القوة العلمية او الموضوعية التي تنطوي عليها الفتوى. تماما مثل رأي الطبيب الحاذق الذي يفرض نفسه بنفسه، ومرافعة المحامي المتمرس الذي يكسب الدعوى مهما قويت حجج الخصوم، وابيات الشاعر المبدع التي يتداولها الناس ولو عارضت رايهم، ونتاج العالم الذي يطبقه اعداؤه فضلا عن اصدقائه، وهكذا. الاستقلال اذن يكمن في القوة الداخلية، أي التاسيس العلمي، والتاسيس العلمي يتوقف على التخصص والالتزام بحدوده.
talsaif@yahoo.com